محرم بك.. حي يحكي تاريخ البارونات والأمراء بوسط الإسكندرية
سكنته جاليات كثيرة وشهد مولد توفيق الحكيم وليلى مراد والأخوين وانلي
الإسكندرية: داليا عاصم
عندما تصل لأنفك رائحة الخبز الطازج، المختلطة برحيق الأسماك المشوية، الممزوجان بأدخنة التبغ المنبعثة من مصنع «الشرقية للدخان» (كوتاريللي اليوناني سابقا)، وإلى أذنيك يصل ضجيج «الترام الأصفر»، فإنك الآن تقف في وسط مدينة الإسكندرية، وتحديدا في حي محرم بك، الذي كان يوما أحد أهم الأحياء الأرستقراطية في المدينة ذات القناع الكوزموبوليتاني.يمتاز الحي بثرائه التاريخي وأعلامه من الفنانين والكتاب والشعراء، وكان حتى وقت قريب أشبه بضاحية راقية مستلقية على ضفاف ترعة المحمودية، حيث نزحت إليه صفوة المجتمع من البارونات والأمراء بعد القصف البريطاني سنة 1882 ميلادية للحي الأوروبي في المنشية، ليصبح مركزا لتجمع الجاليات الأجنبية التي خلقت لنفسها حياة اجتماعية متكاملة فيه، وعلى الأخص الجالية الإيطالية والتركية واليهودية.
سمي الحي باسم «محرم بك» زوج «تفيدة هانم» كريمة محمد علي باشا، الذي كان قائدا للأسطول البحري المصري حتى عام 1826، وتخليدا لبطولاته سمي الحي باسمه وأطلق اسمه أيضا على أطول وأوسع شوارع الحي. اليوم؛ تجلس السيدة قدرية مختار (76 عاما) في محطة الترام تلاحقها الذكريات، حينما كان الترام نزهة لطيفة راقية، وتروي لـ«الشرق الأوسط» كيف كان «الكمساري» يحصّل التذكرة قائلا بابتسامة لطيفة: «تذاكر يا هانم»، وكيف كانت العائلات السكندرية في محرم بك تتباهى باستضافتها أحد الفنانين أو الكتاب، أما الترجل في الحي فكان متعة طاغية، حيث شوارعه المعبدة ببلاطات البازلت الأسود اللامعة والشوارع الهادئة التي تتمايل على جوانبها أشجار الموز والأشجار المعمرة الوارفة الظلال. لكن لم تعد الليلة كالبارحة - بحسبها - بعد أن تبدلت أحوال الحي الذي ولدت ونشأت فيه.
أضحى الحي شعبيا تتقلص فيه الطبقة الوسطى بعدما انقرضت منه الطبقة الأرستقراطية، بينما هدمت معظم قصوره وفيلاته واقتلعت أشجاره ووقفت مكانها كتل خراسانية ضخمة. ويشكل النوبيون تفصيله تروي الكثير عن رحابة هذا الحي الذي أصبح مركزا لهم؛ حيث استوطنوا الجزء المحيط بمنطقة محطة مصر منذ بدايات القرن التاسع عشر، حيث كانوا يعملون مع الأجانب والطبقة الأرستقراطية في الحي.
من خلف السيدة، تظهر روح المكان، الكنائس بأجراسها تختلط بأصوات المآذن الشامخة، في جدارية روحية تحتضن أهالي الحي، الذي يوجد به مسيحيون أكثر من أي حي آخر بالإسكندرية، وعندما تسير في شوارعه ستجد الكثير من دور الكتاب المقدس التي تزين واجهاتها صور المسيح والسيدة العذراء.
وتعد كنيسة السيدة العذراء مريم في محرم بك من أبرز المعالم الأثرية المسيحية في الحي التي تم افتتاحها يوم الخميس الموافق سنة 1934، وأقيم احتفال مهيب حضره البابا المتنيح الأنبا يؤانس، وعدد كبير من أهم الشخصيات السكندرية آنذاك؛ ومنهم الأمير عمر طوسون وأعضاء المجلس الملي.
ومن القصص التي ارتبطت بالكنيسة، ظهور السيدة العذراء عند القبة وحماية كنيستها، إذ تروى الكثير من القصص في الحي عن رؤية سيدة تلبس ملابس بيضاء بهية كانت تمشي فوق سطح الكنيسة أثناء غارة جوية إبان الحرب العالمية الثانية 1942، وأزاحت القنبلة بيدها لتسقط بعيدا عن الكنيسة، فسقطت خلفها وتسببت في هدم 3 منازل، وتطايرت بعض الشظايا واخترقت حائط الكنيسة الخلفي ولم تؤثر على شيء يذكر سوى ما أحدثته من فجوة كبيرة تبلغ مساحتها مترا مربعا فوق صورة السيدة العذراء بالمقصورة الخاصة بها، إلا أن الصورة بقيت سليمة حتى لوح الزجاج الذي يغطيها لم ينكسر، ويقال إن تلك كانت القنبلة الأخيرة التي ألقيت على القطر المصري، والتي انسحب العدو بعدها وعادت مصر آمنة والإسكندرية سالمة.
ويزخر الحي بمكتبة البلدية الملحقة بمتحف الفنون الجميلة، الذي أنشئ في عهد الملك فاروق الأول، حين وهب البارون اليهودي «شارل دي مانشا»، المعروف بعشقه للفن، فيلا يملكها بالحي لكي تكون مكتبة ومتحفا للصور، وهو يضم حاليا مجموعة من أروع أعمال الفنانين المصريين والعرب والأجانب لا توجد في أي مكان آخر، ويقام به بينالي الإسكندرية لدول البحر المتوسط منذ أكثر من 50 عاما. ويضم حي محرم بك مدرسة سان جوزيف الفرنسية، التي كانت من قبل فيلا أحمد مظلوم باشا وتحولت إلى ملجأ القديس يوسف في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 1885 ثم تحولت بناء على طلب أهالي الحي إلى مدرسة سنة 1892. فضلا عن ملجأ «سان فرانسيسكو»، وهو ملجأ الرهبان السلوفانيين المتقاعدين الذين جاءوا إلى مصر عبر ميناء تريست في الفترة من 1870 وحتى 1950.
أما ما تبقى من بصمات الجالية اليهودية في محرم بك فهو قصر البارون مانشا الذي تحول إلى مدرسة المشير أحمد بدوي، وملجأ اليهود العجزة «لافوييه»، الذي أسسه رجل الأعمال اليهودي إبرام عاداه بك في شارع الرصافة، الذي تحول إلى مستشفى النزهة، وحتى وقت قريب كان يعيش به عدد من اليهود السكندريين. كما شيد عاداه بك مستشفى الرمد حاليا الذي يقع في منطقة وابور المياه وعلى مقربة من محطة مصر بجوار النادي الأولمبي، وافتتح المستشفى عام 1929 وكان يستقبل كل الجنسيات.
ومن معالم الحي المطمورة التي تركتها الجالية الألمانية مستشفى ناريمان، الذي أنشئ في سنة 1886 وكان يعرف باسم «البروسيا»، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية أطلق عليه مستشفى «الأنغلسويس» حتى 1918، ثم سمي مستشفى الأميرة فوزية بعد تأسيس جامعة فاروق الأول، حيث تم شراء المستشفى عام 1948. وفي عام 1950 أصبح اسمه مستشفى ناريمان بعد زواج الملك فاروق بالملكة ناريمان، وبعد قيام الثورة تم تسمية المستشفى باسم الحضرة الجامعي. ومن البصمات التي تركتها الجالية الإيطالية في محرم بك المدرسة الطلياني الدون بوسكو، وهي مدرسة فنية للبنين، والمستشفى الإيطالي الذي بني عام 1926 والذي له طراز معماري متميز كالأكواخ الخشبية، كذلك المستشفى الإيطالي الماتيرناتيه الذي افتتحه المهندس الإيطالي الشهير لوريا عام 1923 وهو مستشفى للولادة، وللأسف طمست معالم الكثير من الأعمال الفنية التي كان يزدان بها الحي للكثير من الفنانين التشكيليين الإيطاليين.
ومن بين أهم المساجد التي يزخر بها حي محرم بك مسجد «أنجه هانم» الواقع على ترعة المحمودية، وقد سمي باسم أنجه هانم زوجة والي مصر محمد سعيد باشا، وعلى ضفة المحمودية أيضا يرقد قصر الأمير عمر طوسون الملقب بـ«أمير الإسكندرية»، الذي قدم الكثير للمدينة، وللأسف تحول قصره إلى مخزن للكتب ويعاني من الإهمال الشديد الذي يطمس معالمه.
يضم الحي كذلك مبنى كلية العلوم القديم، التي درس بها كثير من العلماء المصريين منهم الدكتور أحمد زويل، وهو المبنى الذي أراد الطبيب الشهير علي باشا إبراهيم المولود في الإسكندرية تحويل حجراته إلى عنابر وغرف عمليات إبان الحرب العالمية الثانية، حيث يحمل أكبر مدرجات الكلية اسمه.
ومن بين المدارس العريقة في الحي مدرسة العباسية الثانوية العسكرية بنين، التي أنشأها الخديوي عباس حلمي الثاني، بينما بدأت الدراسة بالمدرسة في أكتوبر (تشرين الأول) 1910. وهي المدرسة التي تخرج فيها الكثير من الشخصيات الهامة والأعلام المصريين في مجالات السياسة والعلوم والآداب.
بينما حملت شوارع الحي الكثير من الأسماء الأجنبية، منها لويجي إستاني، وتنكيز، وغرانفيل، وسلفاغو، وأتوفاج، وهي الشوارع التي تغيرت أسماؤها وتمصرت بعد التأميم.
ومن الأماكن الشهيرة في الحي سجن الحضرة الذي حبست جدرانه أعتى المجرمين ومنهم ريا وسكينة. كذلك نادي الصيد على أطراف الحي، الذي كان من قبل مدرسة الرماية في عام 1949، التي شيدت لإشباع رغبة الملك فاروق وحاشيته في الصيد، وكان النادي يضم مباني خشبية وميادين للحمام والأطباق وأماكن لتخزين الحمام. وكان معظم أعضائه من الأجانب وافتتحه حسين صبري باشا خال الملك فاروق، وكان الباشوات والأعيان يخرجون منه لرحلات ترافق الملك فاروق إلى إدكو ومريوط أو السلسلة.
الكثافة السكانية العالية التي تميز الحي العريق وما يشمله من معالم جعلت منه مدينة متكاملة داخل الإسكندرية، فلا يمكن أن تتمنى شيئا إلا وتجده هناك.. فقد كان الحي ولا يزال يمتلئ بمصانع النسيج مثل بوليفارا، والأقطان مثل كابو التي أممها جمال عبد الناصر، والزجاج، والمطابع، والكبريت، والزيوت، والصابون، وتحول حاليا إلى مركز للترفية والتسوق بعد وجود «الهايبر ماركت» على أطرافه فأصبح الحي قبله لمدمني الشراء.
أما من أشهر من أنجبهم الحي العريق؛ فيأتي الكاتب الكبير توفيق الحكيم، المولود عام 1898، وتلقى تعليمه الثانوي في مدرسة العباسية الثانوية في الحي ذاته، ومن أشهر ما كتب الحكيم عن الحي حكاية ولادته في بيت خالته الكبرى، وهو المنزل الذي رآه حينما بلغ الخامسة أو السادسة، ووصفه بقوله: «منزل صغير مكون من طابق واحد به حديقة صغيرة فيها تكعيبة عنب خيل إلي يومئذ أنها حرش من الأحراش». وولدت في الحي أيضا الفنانة هند رستم عام 1929، والفنانة بهيجة حافظ، والفنانة ليلى مراد، التي ولدت لأسرة يهودية عام 1918، والمطرب عمر فتحي. وولد فيه من الفنانين التشكيليين الفنان الكبير محمد ناجي، أحد رواد الحركة الفنية الحديثة في مصر، والأخوان سيف وأدهم وانلي، وقد كتب الأول في مذكراته: «كنا نلتقي بالفنانين الذين يمرون بالإسكندرية ويهبطون إليها أياما ليسجلوا انطباعاتهم السريعة، وكنا نلتقي بهم مصادفة وهم يرسمون، وبخاصة على ضفاف المحمودية حيث كان بيتنا».
وكان الحي مركزا لأحداث كان بطلها سفاح الإسكندرية، محمود أمين سليمان، الذي ألهم نجيب محفوظ روايته الشهيرة «اللص والكلاب»، وعاش به لفترة الأديب السكندري إدوار الخراط وذكره في رائعتيه «ترابها زعفران» و«يا بنات إسكندرية»، كذلك دارت به أحداث كثيرة في رواية الأديب إبراهيم عبد المجيد «طيور العنبر».
كما ولدت به «رباعية الإسكندرية» للكاتب البريطاني الشهير لورانس داريل، حيث أقام في منزل عائلة إمبرون أثناء الحرب العالمية الثانية، وفيه تعرف إلى الفنانة كليا بدارو وهام بها، وأطلق اسمها على واحدة من «رباعيات الإسكندرية» التي أصبحت علامة فارقة في تاريخ الأدب الروائي العالمي.
عندما تصل لأنفك رائحة الخبز الطازج، المختلطة برحيق الأسماك المشوية، الممزوجان بأدخنة التبغ المنبعثة من مصنع «الشرقية للدخان» (كوتاريللي اليوناني سابقا)، وإلى أذنيك يصل ضجيج «الترام الأصفر»، فإنك الآن تقف في وسط مدينة الإسكندرية، وتحديدا في حي محرم بك، الذي كان يوما أحد أهم الأحياء الأرستقراطية في المدينة ذات القناع الكوزموبوليتاني.يمتاز الحي بثرائه التاريخي وأعلامه من الفنانين والكتاب والشعراء، وكان حتى وقت قريب أشبه بضاحية راقية مستلقية على ضفاف ترعة المحمودية، حيث نزحت إليه صفوة المجتمع من البارونات والأمراء بعد القصف البريطاني سنة 1882 ميلادية للحي الأوروبي في المنشية، ليصبح مركزا لتجمع الجاليات الأجنبية التي خلقت لنفسها حياة اجتماعية متكاملة فيه، وعلى الأخص الجالية الإيطالية والتركية واليهودية.
سمي الحي باسم «محرم بك» زوج «تفيدة هانم» كريمة محمد علي باشا، الذي كان قائدا للأسطول البحري المصري حتى عام 1826، وتخليدا لبطولاته سمي الحي باسمه وأطلق اسمه أيضا على أطول وأوسع شوارع الحي. اليوم؛ تجلس السيدة قدرية مختار (76 عاما) في محطة الترام تلاحقها الذكريات، حينما كان الترام نزهة لطيفة راقية، وتروي لـ«الشرق الأوسط» كيف كان «الكمساري» يحصّل التذكرة قائلا بابتسامة لطيفة: «تذاكر يا هانم»، وكيف كانت العائلات السكندرية في محرم بك تتباهى باستضافتها أحد الفنانين أو الكتاب، أما الترجل في الحي فكان متعة طاغية، حيث شوارعه المعبدة ببلاطات البازلت الأسود اللامعة والشوارع الهادئة التي تتمايل على جوانبها أشجار الموز والأشجار المعمرة الوارفة الظلال. لكن لم تعد الليلة كالبارحة - بحسبها - بعد أن تبدلت أحوال الحي الذي ولدت ونشأت فيه.
أضحى الحي شعبيا تتقلص فيه الطبقة الوسطى بعدما انقرضت منه الطبقة الأرستقراطية، بينما هدمت معظم قصوره وفيلاته واقتلعت أشجاره ووقفت مكانها كتل خراسانية ضخمة. ويشكل النوبيون تفصيله تروي الكثير عن رحابة هذا الحي الذي أصبح مركزا لهم؛ حيث استوطنوا الجزء المحيط بمنطقة محطة مصر منذ بدايات القرن التاسع عشر، حيث كانوا يعملون مع الأجانب والطبقة الأرستقراطية في الحي.
من خلف السيدة، تظهر روح المكان، الكنائس بأجراسها تختلط بأصوات المآذن الشامخة، في جدارية روحية تحتضن أهالي الحي، الذي يوجد به مسيحيون أكثر من أي حي آخر بالإسكندرية، وعندما تسير في شوارعه ستجد الكثير من دور الكتاب المقدس التي تزين واجهاتها صور المسيح والسيدة العذراء.
وتعد كنيسة السيدة العذراء مريم في محرم بك من أبرز المعالم الأثرية المسيحية في الحي التي تم افتتاحها يوم الخميس الموافق سنة 1934، وأقيم احتفال مهيب حضره البابا المتنيح الأنبا يؤانس، وعدد كبير من أهم الشخصيات السكندرية آنذاك؛ ومنهم الأمير عمر طوسون وأعضاء المجلس الملي.
ومن القصص التي ارتبطت بالكنيسة، ظهور السيدة العذراء عند القبة وحماية كنيستها، إذ تروى الكثير من القصص في الحي عن رؤية سيدة تلبس ملابس بيضاء بهية كانت تمشي فوق سطح الكنيسة أثناء غارة جوية إبان الحرب العالمية الثانية 1942، وأزاحت القنبلة بيدها لتسقط بعيدا عن الكنيسة، فسقطت خلفها وتسببت في هدم 3 منازل، وتطايرت بعض الشظايا واخترقت حائط الكنيسة الخلفي ولم تؤثر على شيء يذكر سوى ما أحدثته من فجوة كبيرة تبلغ مساحتها مترا مربعا فوق صورة السيدة العذراء بالمقصورة الخاصة بها، إلا أن الصورة بقيت سليمة حتى لوح الزجاج الذي يغطيها لم ينكسر، ويقال إن تلك كانت القنبلة الأخيرة التي ألقيت على القطر المصري، والتي انسحب العدو بعدها وعادت مصر آمنة والإسكندرية سالمة.
ويزخر الحي بمكتبة البلدية الملحقة بمتحف الفنون الجميلة، الذي أنشئ في عهد الملك فاروق الأول، حين وهب البارون اليهودي «شارل دي مانشا»، المعروف بعشقه للفن، فيلا يملكها بالحي لكي تكون مكتبة ومتحفا للصور، وهو يضم حاليا مجموعة من أروع أعمال الفنانين المصريين والعرب والأجانب لا توجد في أي مكان آخر، ويقام به بينالي الإسكندرية لدول البحر المتوسط منذ أكثر من 50 عاما. ويضم حي محرم بك مدرسة سان جوزيف الفرنسية، التي كانت من قبل فيلا أحمد مظلوم باشا وتحولت إلى ملجأ القديس يوسف في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 1885 ثم تحولت بناء على طلب أهالي الحي إلى مدرسة سنة 1892. فضلا عن ملجأ «سان فرانسيسكو»، وهو ملجأ الرهبان السلوفانيين المتقاعدين الذين جاءوا إلى مصر عبر ميناء تريست في الفترة من 1870 وحتى 1950.
أما ما تبقى من بصمات الجالية اليهودية في محرم بك فهو قصر البارون مانشا الذي تحول إلى مدرسة المشير أحمد بدوي، وملجأ اليهود العجزة «لافوييه»، الذي أسسه رجل الأعمال اليهودي إبرام عاداه بك في شارع الرصافة، الذي تحول إلى مستشفى النزهة، وحتى وقت قريب كان يعيش به عدد من اليهود السكندريين. كما شيد عاداه بك مستشفى الرمد حاليا الذي يقع في منطقة وابور المياه وعلى مقربة من محطة مصر بجوار النادي الأولمبي، وافتتح المستشفى عام 1929 وكان يستقبل كل الجنسيات.
ومن معالم الحي المطمورة التي تركتها الجالية الألمانية مستشفى ناريمان، الذي أنشئ في سنة 1886 وكان يعرف باسم «البروسيا»، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية أطلق عليه مستشفى «الأنغلسويس» حتى 1918، ثم سمي مستشفى الأميرة فوزية بعد تأسيس جامعة فاروق الأول، حيث تم شراء المستشفى عام 1948. وفي عام 1950 أصبح اسمه مستشفى ناريمان بعد زواج الملك فاروق بالملكة ناريمان، وبعد قيام الثورة تم تسمية المستشفى باسم الحضرة الجامعي. ومن البصمات التي تركتها الجالية الإيطالية في محرم بك المدرسة الطلياني الدون بوسكو، وهي مدرسة فنية للبنين، والمستشفى الإيطالي الذي بني عام 1926 والذي له طراز معماري متميز كالأكواخ الخشبية، كذلك المستشفى الإيطالي الماتيرناتيه الذي افتتحه المهندس الإيطالي الشهير لوريا عام 1923 وهو مستشفى للولادة، وللأسف طمست معالم الكثير من الأعمال الفنية التي كان يزدان بها الحي للكثير من الفنانين التشكيليين الإيطاليين.
ومن بين أهم المساجد التي يزخر بها حي محرم بك مسجد «أنجه هانم» الواقع على ترعة المحمودية، وقد سمي باسم أنجه هانم زوجة والي مصر محمد سعيد باشا، وعلى ضفة المحمودية أيضا يرقد قصر الأمير عمر طوسون الملقب بـ«أمير الإسكندرية»، الذي قدم الكثير للمدينة، وللأسف تحول قصره إلى مخزن للكتب ويعاني من الإهمال الشديد الذي يطمس معالمه.
يضم الحي كذلك مبنى كلية العلوم القديم، التي درس بها كثير من العلماء المصريين منهم الدكتور أحمد زويل، وهو المبنى الذي أراد الطبيب الشهير علي باشا إبراهيم المولود في الإسكندرية تحويل حجراته إلى عنابر وغرف عمليات إبان الحرب العالمية الثانية، حيث يحمل أكبر مدرجات الكلية اسمه.
ومن بين المدارس العريقة في الحي مدرسة العباسية الثانوية العسكرية بنين، التي أنشأها الخديوي عباس حلمي الثاني، بينما بدأت الدراسة بالمدرسة في أكتوبر (تشرين الأول) 1910. وهي المدرسة التي تخرج فيها الكثير من الشخصيات الهامة والأعلام المصريين في مجالات السياسة والعلوم والآداب.
بينما حملت شوارع الحي الكثير من الأسماء الأجنبية، منها لويجي إستاني، وتنكيز، وغرانفيل، وسلفاغو، وأتوفاج، وهي الشوارع التي تغيرت أسماؤها وتمصرت بعد التأميم.
ومن الأماكن الشهيرة في الحي سجن الحضرة الذي حبست جدرانه أعتى المجرمين ومنهم ريا وسكينة. كذلك نادي الصيد على أطراف الحي، الذي كان من قبل مدرسة الرماية في عام 1949، التي شيدت لإشباع رغبة الملك فاروق وحاشيته في الصيد، وكان النادي يضم مباني خشبية وميادين للحمام والأطباق وأماكن لتخزين الحمام. وكان معظم أعضائه من الأجانب وافتتحه حسين صبري باشا خال الملك فاروق، وكان الباشوات والأعيان يخرجون منه لرحلات ترافق الملك فاروق إلى إدكو ومريوط أو السلسلة.
الكثافة السكانية العالية التي تميز الحي العريق وما يشمله من معالم جعلت منه مدينة متكاملة داخل الإسكندرية، فلا يمكن أن تتمنى شيئا إلا وتجده هناك.. فقد كان الحي ولا يزال يمتلئ بمصانع النسيج مثل بوليفارا، والأقطان مثل كابو التي أممها جمال عبد الناصر، والزجاج، والمطابع، والكبريت، والزيوت، والصابون، وتحول حاليا إلى مركز للترفية والتسوق بعد وجود «الهايبر ماركت» على أطرافه فأصبح الحي قبله لمدمني الشراء.
أما من أشهر من أنجبهم الحي العريق؛ فيأتي الكاتب الكبير توفيق الحكيم، المولود عام 1898، وتلقى تعليمه الثانوي في مدرسة العباسية الثانوية في الحي ذاته، ومن أشهر ما كتب الحكيم عن الحي حكاية ولادته في بيت خالته الكبرى، وهو المنزل الذي رآه حينما بلغ الخامسة أو السادسة، ووصفه بقوله: «منزل صغير مكون من طابق واحد به حديقة صغيرة فيها تكعيبة عنب خيل إلي يومئذ أنها حرش من الأحراش». وولدت في الحي أيضا الفنانة هند رستم عام 1929، والفنانة بهيجة حافظ، والفنانة ليلى مراد، التي ولدت لأسرة يهودية عام 1918، والمطرب عمر فتحي. وولد فيه من الفنانين التشكيليين الفنان الكبير محمد ناجي، أحد رواد الحركة الفنية الحديثة في مصر، والأخوان سيف وأدهم وانلي، وقد كتب الأول في مذكراته: «كنا نلتقي بالفنانين الذين يمرون بالإسكندرية ويهبطون إليها أياما ليسجلوا انطباعاتهم السريعة، وكنا نلتقي بهم مصادفة وهم يرسمون، وبخاصة على ضفاف المحمودية حيث كان بيتنا».
وكان الحي مركزا لأحداث كان بطلها سفاح الإسكندرية، محمود أمين سليمان، الذي ألهم نجيب محفوظ روايته الشهيرة «اللص والكلاب»، وعاش به لفترة الأديب السكندري إدوار الخراط وذكره في رائعتيه «ترابها زعفران» و«يا بنات إسكندرية»، كذلك دارت به أحداث كثيرة في رواية الأديب إبراهيم عبد المجيد «طيور العنبر».
كما ولدت به «رباعية الإسكندرية» للكاتب البريطاني الشهير لورانس داريل، حيث أقام في منزل عائلة إمبرون أثناء الحرب العالمية الثانية، وفيه تعرف إلى الفنانة كليا بدارو وهام بها، وأطلق اسمها على واحدة من «رباعيات الإسكندرية» التي أصبحت علامة فارقة في تاريخ الأدب الروائي العالمي.
No comments:
Post a Comment